أسرار ورموز- عالم النقاط الجوية بين التنظيم والفكاهة

المؤلف: منيف الحربي10.25.2025
أسرار ورموز- عالم النقاط الجوية بين التنظيم والفكاهة

إن عالم الطيران، بحذافيره وأسراره الخفية، يمثل فضاءً شاسعًا يعج بالتفاصيل المعقدة والوقائع الشيقة، والكل يعلم أن الطائرات تخترق السماء عبر مسارات محددة ومنظمة، إلا أن هذه المسارات ليست مجرد خطوط اعتباطية مرسومة في الفضاء، بل لكل طريق جوي بصمة مميزة، ولكل نقطة على امتداد هذه المسارات اسم فريد لا مثيل له. النقاط الجوية ليست مجرد علامات على الخرائط، بل هي جزء لا يتجزأ من نظام متكامل يهدف إلى توجيه الطائرات في مساراتها الصحيحة والحفاظ على سلامة الأجواء وتجنب الفوضى والاختلال. وتنقسم هذه النقاط الجوية إلى نوعين أساسيين: النوع الأول يُعرف بـ "نقطة إبلاغ إلزامية"، حيث يلتزم الطيار بإبلاغ المراقب الجوي عند عبورها، وذلك في حالة عدم وجود تغطية رادارية كافية. أما النوع الثاني، فهو "نقطة إبلاغ اختيارية"، وفيها لا يُطلب من الطيار الإبلاغ عنها إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك وبطلب مباشر من المراقب الجوي. وقد بدأ تحديد هذه النقاط في منتصف القرن الماضي، مع التطور المتسارع لأنظمة الملاحة الجوية، وكان الهدف من ذلك هو تنظيم حركة الطائرات وتفادي وقوع حوادث التصادم، خاصة في المناطق المزدحمة جويًا. ومع ظهور التقنيات الحديثة واستخدام أنظمة الملاحة بالأقمار الصناعية المتطورة، مثل نظام (GPS-RNAV)، تحولت هذه النقاط إلى نقاط رقمية، تُعرض بوضوح على الخرائط الملاحية التي يستخدمها الطيارون والمراقبون الجويون على حد سواء. وكانت تسمية النقاط الجوية تتم في البداية بطرق تقليدية، ثم تطورت لتصبح آلية تتم عبر أجهزة الكمبيوتر، وفقًا لمعايير دقيقة ومحددة، مثل اشتراط أن تتكون الأسماء من خمسة أحرف، وأن لا تتكرر في نفس المنطقة الجغرافية، وأن تكون الأسماء حسنة وغير مسيئة. وفي بعض الأحيان، تُستوحى الأسماء من المواقع الجغرافية القريبة، كالقرى والمدن المعروفة، أو من تاريخ المنطقة وثقافتها، بينما يبقى القسم الأكبر من هذه الأسماء عشوائيًا ولا يحمل معنى ظاهراً. وفي الأجواء السعودية، على سبيل المثال، تزدان السماء بأكثر من 850 نقطة جوية، تحمل أسماء مستوحاة من جغرافيا وتاريخ المملكة العريق، مثل نقطة «DURMA» الواقعة على طريق الرياض جدة، والتي تعود نسبتها إلى مدينة ضرما المعروفة، ونقطة «DEESA» التي تعبرها الطائرات القادمة إلى الأجواء السعودية من الأردن، وهي مشتقة من اسم «الديسة» في منطقة تبوك. وهناك أسماء أخرى تنبض بعبق المكان، مثل نقطة «SIBLI» الواقعة جنوب حفر الباطن، والمأخوذة من اسم «روضة السبلة» ذات الشهرة الواسعة، وأسماء أخرى تحمل دلالات ورمزية خاصة، مثل نقطة «ROSUL» الواقعة بين القصيم والمدينة المنورة، ونقطة «BELAL» الواقعة شمال المدينة المنورة. وعلى الصعيد العالمي، تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول التي لديها أكبر عدد من النقاط الجوية، بأسماء لافتة وغريبة، مثل «BURGR» و«HAMMM»، وفي ولاية جورجيا الأمريكية، نجد نقطة باسم «PEACH»، وذلك تيمناً بفاكهة الخوخ التي تشتهر الولاية بإنتاجها الوفير، ونقطة أخرى باسم «ELVIS» نسبةً إلى المغني الشهير إلفيس بريسلي، وفي أستراليا نجد نقطة باسم «FRODO»، مستوحاة من شخصية فيلم سيد الخواتم الشهير، وفي إيطاليا لا يمكن أن تخلو السماء من نقطة باسم «PIZZA»، أما في كندا، وبالتحديد عند القطب الشمالي، فتقع نقطة باسم «BORED»، والتي تعكس بصدق طبيعة الحياة الباردة والمملة في تلك المنطقة. وعلى الرغم من الجدية والصرامة التي تطبع عالم الطيران، فإن هذه الأسماء تضفي في بعض الأحيان شيئاً من المرح والبهجة على حوارات الطيارين والمراقبين الجويين، مما يساهم في كسر حاجز الرسميات وإضفاء لمسة من الدعابة والفكاهة على هذا العالم الجاد، ولعل هذه الحكايات الطريفة والقصص الصغيرة تستحق أن تُروى وتسجل في مقالة أخرى في يوم من الأيام.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة